بسم الله الرحمن الرحيم إن الإعجازالبلاغي والبياني في القرآن هو إعجاز بلا حدود ... غيب أذهان الملحدين ..وجعلهم يتقهقرون أمام عظمته وجمال لفظه ونظمه ... فلم يستطيعوا الرد عليه ...أو الإتيان بمثله.. كيف لا وهو الكتاب
المحكم المنزل من رب العالمين
ومن هذا المنطلق ومن منطلقات عدة أحببت أن نقف أمام هذا الإعجاز البياني
في القرآن ...وهو موضوع منكم وإليكم فأتمنى ان تتفاعلوا مع هذا الموضوع ..
ويكفي انك ستجني من هذا التفاعل خيراً عظيماً
واجراً موفوراً من رب العالمين
.
.
.
إن إعجاز القرآن في " اللفظ والبيان " يقوم على دعائم أربع:
أ / فصاحة ألفاظه وجمـــال عباراته
ب/ بلاغة معانيه وسموها
ج/ روعة نظمه وتأليفــــه
د/ بـــداعة أسلــــوبـــــه
هذه هي دعائم الإعجاز البياني للقرآن الكريم ،
وإليك توضيحها واحداً تلو الآخر:
أ-فصاحة القرآن المعجزة
الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام ،
فالفصاحة في المفرد عبارة عن خلوه من تنافر الحروف والغرابة
ومخالفة القياس اللغوي ، والحق أن التنافر أمر ذوقي
وليس رهن قرب المخارج ولا بعدها دائماً
وأما الفصاحة في الكلام فيشترط فيها مضافاً إلى الشرائط المعتبرة
في فصاحة المفرد ،
خلوص الكلام من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد
ثم إن التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام ،
بمعنى تأخير ما حقه التأخير وبالعكس ،
وأخرى بسبب بعد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الكنائي المقصود ،
والمتكفل لبيان الخلل في النظم هو علم النحو ،
والمتكفل لبيان الخلل في المناسبة هو علم البيان
هذا ما اعتمد عليه علماء اللغة والبيان في تعريف الفصاحة ،
لكن المهم في فصاحة الكلمة
كونها عذبة مألوفة الاستعمال ، جامعة لنعوت الجودة وصفات الجمال ،
كما أن المهم في فصاحة الكلام تلاؤم الكلمات في الجمل
بحيث يوجب حسن الكلام في السمع وسهولته في
الأداء ويستحسنه الطبع ، وأما غير العذوبة والتلاؤم من الشرائط
فهي في الدرجة الثانية في من تحقيق معنى الفصاحة ،
بل ولا يكون بعضها معتبراً في الفصاحة القرآنية ، كمخالفة
القياس في فصاحة المفرد ، وضعف التأليف بمعنى كونه على خلاف
القانون النحوي المختلف
وذلك لأن القرآن هو المقياس لا العكس
والذوق السليم هو العمدة في معرفة حسن الكلمات وسلاستها
وتمييز ما فيها من وجوه البشاعة ومظاهر الاستكراه ،
لأن الألفاظ أصوات ، فالذي يطرب لصوت البلبل ، وينفر من
أصوات البوم والغربان ، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة
متنافرة الحروف .
وبما أن لتلاؤم الحروف دوراً عظيماً في الفصاحة ،
نركّز في هذا البحث على الخلو من تنافر
الكلمة والكلمات ، بحيث لا تكون نفس الكلمة ثقيلة على السمع ،
كما لا يكون اتصال بعضها
ببعض ما يسبب ثقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان ،
وبما أن مخارج الحروف مختلفة
، فلا بد في حصول التلاؤم من مراعاة ذلك ، بأن لا يكون بين الحروف
بعد أو قرب شديد ،
فعندها تظهر الكلمة أو الكلام سهلاً على اللسان ،
وحسناً في الأسماع ومقبولاً في الطباع ،
وهذا وإن لم يكن كلاماً كلياً لتمييز المتلائم من المتنافر
إلا أنه ميزان غالبي إذا عرفت ذلك فهلمّ معي حتى نرجع إلى القرآن الكريم
ونرى نماذج
من فصاحته المعجزة : مثلاً : قوله سبحانه
(ومن آياته الجوارِ في البحر كالأعلام ) ...الشورى..32
إن لهذه الآية تميزاً ذاتياً عن كلام البشر لا يتمارى فيه منصف ،
ولا يشتبه على من له ذوق في معرفة فصاحة الكلام ،
وذلك التميز رهن فصاحة أبنيتها وعذوبة تركيب أحرفها ، مضافاً
إلى سلاسة صيغها والشاهد على ذلك كله الذوق السليم .
من عجائب القرآن أنه يعمد إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل والخشونة ،
فيجمعها في معرض واحد ثم ينظم منها آياته ،
فإذا هي وضيئة مشرقة ، متعانقة متناسقة ومن نماذج ذلك
قوله سبحانه..
{قالوا تالله تَفْتَؤا تذكر يوسف حتى تكون حَرَضا أو تكون من الهالكين }
سورة يوسف :85
فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلاً واضحاً في السمع واللسان
أعني قوله (( تالله … تفتؤا …
حرضا )) لكنها قد انتظمت مع خمس كلمات أخرى ،
فكان من ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة وحسنا
وأيضاً من بدائع القرآن وغرائبه أن يكرر الحرف الثقيل في آية واحدة
ولكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة والخفة ،
مكان الثقل والخشونة ، ومن هذا النوع قوله سبحانه
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك
وأممٌ سنمتعهم ثم يمسهم منا عذابٌ أليم} سورةهود 48
فقد اجتمعت فيها ثمانية عشر ميماً منشورة بين كلماتها حتى كأن الآية
مشكّلة من ميمات ، ومع هذا فإنك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه
الذي يرتل به القرآن ، لا تحس أن هنا حرفاً ثقيلاً
قد تكرر تكراراً غير مألوف بل تجد الآية قد توازنت كلماتها
في أعدل صورة وأكملها
ونظيرها قوله سبحانه
((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء
وتُعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ))
سورة آل عمران : 26
ففي الآية اثنا عشر ميماً ، قد جاءت في مطلعها ولكنها مع ذلك
كأنها ميم واحدة
ونظيرها أيضاً قوله تعالى
((واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتُقُبِّل من أحدهما
ولم يُتَقَبَّل من الآخر قال لأقتلنّكَ قال إنما يتقبل الله من المتقين ))
سورة المائدة : 27
فقد جاء فيها أحد عشر قافاً – وهو من أثقل الحروف نطقاً –
لو نثرت هذه القافات في كلام
أبسط من هذا ، لظهر عليه الثقل ،
ولكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقاً
واضطراباً وذلك لكثرة الباءات واللامات في الآية لأنهما
من أخف الحروف نطقاً ، فأوجبت كثرة
دورانها تلطيفاً في الثقل الذي توجبه القاف .
ومثل ذلك قوله سبحانه :
((لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب
ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ))
سورة آل عمران : 181
.
.
.
ب-البلاغة القرانية المعجزه
البلاغة عند علماء المعاني والبيان عبارة عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ويختلف ذلك باختلاف المقام من كونه مقتضياً للتأكيد أو الإطلاق ، أو الإيجاز أو الإطناب وغير ذلك ، هذا كله مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة .
ولا يخفى أن البلاغة بهذا المعنى لا تكون ركناً للإعجاز ما لم يضم إليها شيء آخر وهو إتقان المعاني وسموها ، وإلا فالمعاني المبتذلة وإن ألبست أجمل الحلي وعرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم لا توصف بالبلاغة ، وعلى فرض صحة التوصيف لا يكون مثل ذلك الكلام أساساً للإعجاز ودعامة له ، وهذا مثل ما حكي عن مسيلمة الكذاب حيث قال : (( والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ))!!!
فأين هذه المفاهيم الساقطة من المعاني العالية السامية الواردة في قوله سبحانه
{والعاديات ضبحاً ، فالموريات قدحاً ، فالمغيرات صبحاً }
سورة العاديات : 1-3
فاللازم في البحث عن بلاغة القرآن التركيز على أمرين
1/مطابقة الكلام لمقتضى الحال
2/سمو المعاني وعلو المضامين
ثم أن دراسة القرآن من حيث كونه مطابقاً للأحوال المقتضية وما فيه من فنون المجاز والاستعارة يحتاج إلى تفسير حافل ، يفسّر القرآن من هذا الجانب ، ولعل من أحسن ما كتب في هذا الموضوع الكشّاف للزمخشري ( م/528 ) وتلخيص البيان في مجازات القرآن للسيد الرضي ( م/406) قال الشريف الرضي في مقدمة كتابه
(( كان الحكيم سبحانه ، لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه ، ولكن لأنها أجلى في أسماع السامعين وأشبه بلغة المخاطبين ))
وقال الزمخشري في رسالته حول إعجاز سورة الكوثر
(( انظر ، كيف نظّمت النظم الأنيق ورتّبت الترتيب الرشيق ، حيث قدّم منها ما يدفع الدعوى ويرفعها ، وما يقطع الشبهة ويقلعها
(( إنا أعطيناك الكوثر )) ثم لمّا يجب أن يكون عنه مسببا وعليه مترتبا
(( فصل لربك وانحر )) ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع العدو في مغوّاته التي حفر ، وصلْيه بحرِّ ناره التي سعر (( إن شانئك هو الأبتر))
ثم إن التالي لآيات الذكر الحكيم – إذا كان متمعناً في تلاوته – يرى في كل سورة وآية عظة وتنبيهاً ، وإعلاماً وتذكيراً ، وترغيباً وترهيباً ، وتشريعاً وتقنيناً ، وقصصاً وعبراً ، وبراهين وحججاً ، ترقى بروح الإنسان وتحلّق بها في سماء المعنويات ، فهذه المعاني العالية السامية إذا حملتها ألفاظ فصيحة ، وصيغت بنظم رصينة وألقيت على مقتضى الحال بهرت العقول ، وخلبت النفوس ، وسلمت بعجزها عن معارضته والإتيان بمثله
وإلى هاتين الدعامتين من إعجاز القرآن أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
[ظاهره أنيق وباطنه عميق]
واعترف بذلك عدوه الوليد بقوله
:
(وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه )
فسبحان الله الذي طبع على قلبه!!
إن للقرآن طريقة موحدَّة في التعبير يتخذها في أداء جميع الأغراض على السواء حتى أغراض البرهنة والجدل ، وتلك طريقة صوغ المعاني العالية في قالب التجسيم والتمثيل ،
وإليك نماذج في ذلك1/يعبر عن النفور الشديد من دعوة الإيمان بقوله
{كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة ، فَرَّت من قَسْوَرَة} سورة المدثر : 50-51
2/يعبر عن عجز الآلهة التي يعبدها المشركون بقوله{إن الذي تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلُبهم الذباب شيئاً لا ستنقذوه…}سورة الحج : 73
3/يعبر عن حالة تخلي الأولياء عن تابعيهم أمام هول القيامة هكذا
{وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تَبَعاً فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهدينا لكم سواءٌ علينا أجزِعنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص}
سورة إبراهيم : 21
يعبر عن بطلان أعمال الكافرين بقوله 4/
{والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله
عنده} سورة النور : 39
5/كما يعبر عن ضلالتهم الدائمة بقوله:
{أو كظلماتٍ في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها} سورة النور : 40
هذه نماذج من التصوير الفني للقرآن الكريم
وهناك نوع آخر من التصوير يضفي على المعاني الذهنية والحالات المعنوية صوراً حسية : مثلاً
أ-الصبح مشهد مألوف متكرر ، ولكنه في تعبير القرآن حي لم تشهده من قبل عينان ، وإنه (( والصبح إذا تنفس )) سورة التكوير : 18
ب-الليل من الزمان معهود ، ولكنه في تعبير القرآن ، حي جديد
{والليل اذا يسر} سورة الفجر : 4وهو يطلب النهار في سباق جبار (( يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ))
سورة الأعراف : 54
ج-والجدار بنية جامدة ، ولكنه في تعبير القرآن نفس يحس ويريد { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامه }سورة الكهف : 77